ثقافة ومجتمع

شاعر يكتب بالعربية والتركية والفارسية .. السلطان العثماني سليم الأول وحكايته مع إسماعيل الصفوي وطومان باي

شاعر يكتب بالعربية والتركية والفارسية .. السلطان العثماني سليم الأول وحكايته مع إسماعيل الصفوي وطومان باي

ديلي سيريا – تاريخ

تناولت بعض الأعمال الدارمية الفترة التاريخية التي دخل فيها العثمانيون إلى بلاد الشام ومصر

وكان من ضمن هذه الأعمال، مسلسل “ممالك النـ.ـار”.

وأثار هذا المسلسل الضجة بعد البدء بعض أولى حلقاته في نوفمبر 2017

وأصبح الوقوف على حقيقة بعض الشخصيات والمعـ.ـارك الواردة في هذه المسلسل احتياجاً.

خصوصاً إذا ابتعدنا في الطرح والمناقشة عن الأسباب التي قد تجعل منتجي الأعمال التاريخيّة عادةً يخرجون عن السياق الحقيقي لبعض الأحداث لخدمة الزوايا الدراميّة البحتة.

وفي هذا التقرير نتناول بالبحث والتدقيق الشخصيّة المثيرة للغاية: السلطان سليم الأول.

الشاب “الصـ.ـارم” أصغر إخوته يسيطر على السلطنة

أطلق على سليم وهو صغير لقب “ياووز” أو “يافوز” كما تنطق بالتركيّة وتعني بالعربية “صارم”

وتروي المصادر التركية والعربيّة على السّواء أنّ سليم كان مشاغباً في صغره.

كثير الحركة، مهتمّاً بالفروسيّة والقتـ.ـال، وهي الطّباع التي ستتخلّل سنين حكمه القليلة

التي قضّاها في حـ.ـروب ومعـ.ـارك يعتبر بعضها أطول الحـ.ـروب في تاريخ الدولة العثمانيّة كاملةً.

ولنعد معاً للوراء قليلاً لشرح بعض الظروف المحيطة، فقد توفي السلطان محمّد الفاتح تاركاً ولدين: الأكبر بايزيد الثاني، والأصغر: جمّ سلطان.

خلاف بين الأخوة

وما إن توفِّي الفاتح حتّى نشب الخـ.ـلاف بين الأخوين غير الشقيقين

فسيطر بايزيد على إسطنبول – العاصمة – والجزء الأوروبيّ من الدولة الوليدة.

بينما سيطر أخوه جمّ على بعض المساحات في آسيا الصغرى، ولم تحسم الحرب بينهما لسنين طويلة.

استطاع بايزيد الذي كان يمتلك قيادة الجند الإنكشاريّة – العمود الفقري للدولة – هزيمة أخيه الصغير مراراً.

هذا الأمير الأصغر وجد ملجأه ومبتغاه في الدولة المملوكية، وعاصمتها القاهرة، تحت قيادة السلطان القويّ حينها: السلطان الأشرف قايتباي.

الحماية التي قدّمها الأشرف قايتباي لجمّ أخو السلطان بايزيد الثاني

لم تتجاوز تقديم الضيافة والمال، لكنّ هذه الضيافة كانت بالطبع “تغيظ” العثمانيين إذا صحّ القول.

فوجود أخٍ مطالبٍ بالعرش عند دولةٍ أخرى منافسة مدعاة للقلق الدائم

وقد تحقّق هذا القلق عندما اخترق جمّ الأراضي المملوكية في مصر والشام في إحدى حملاته على أخيه وهاجـ.ـمه في الأناضول.

لم يُكتب لجمّ الانتصار، ولاحقاً اقتيد أسيـ.ـراً من قبل المسيحيين

حكم الأخوة

حتّى وصل لأيادي بابا روما الذي حاول من خلاله الضغط على بايزيد، ولم ينفع الضغط فقـ.ـتل جمّ لاحقاً في سجنه.

حكم بايزيد 31 عاماً أحكم خلالها سيطـ.ـرته على كافة الأراضي العثمانية

وفي أواخر حكمه وزّع ولايات على أولاده الثلاثة، بالترتيب: أحمد الأكبر، وكركود، وسليم “الصارم”.

ومع تقدّم السلطان في السنّ وتجاوزه الستين عاماً، قرر أن يتخلّى عن الحكم لابنه الأكبر أحمد

وكان أحمد على تواصلٍ مع الصفويّين (الفرس الذين اتخذوا تبريز عاصمةً لهم).

وقد دعمه الشاه إسماعيل الصفوي للوصول للحكم، لكنّ سليم الأصغر كان لديه رأيٌ آخر.

كان سليم والياً على طرابزون، وقد أتاحت له ولايته لتلك المنطقة احتـ.ـكاكه ببعض تحرّكات الدولة

الصفوية الشيعيّة الرامية للتوسّع في الأناضول على حساب الدولة العثمانية.

عصيان وتمرد

قرّر سليم إعلان العصـ.ـيان على والده الذي رأى أنّه متـ.ـخاذل عن مقاومة الصفويين وخطـ.ـرهم الكبير على السلطنة.

استطاع جيش السلطنة هزيمة سليم الأوّل، لكنّه استطاع إعادة جيشه والتنسيق مع بعض قادة الجند الإنكشارية ليدعموه.

دخل سليم إلى إسطنبول مُجبِراً أباه على التخلِّي عن العرش له وليس لأخيه الأكبر أحمد، وهنا بدأ أحمد في التـ.ـمرُّد ومحـ.ـاربة سليم.

استطاع سليم أن يهـ.ـزم أخيه أحمد المدعوم من قبل الصفويين الشيعة، وعندما ضاقت الأرض بأحمد، حاول اللجوء للدولةِ المملوكيّة.

وراسل السلطان الجديد قانصوه الغوري، الذي يبدو أنّه لم يرحّب بلجوئه، فلجأ للصفويّين، لكنّ ثلاثةً من أولاده التجأوا إلى مصر.

وبالطبع كانت هذه الخطوة أحد أبرز نقاط الصـ.ـراع مع المملكة المملوكيّة المترامية الأطراف، لكنّهُ صـ.ـراعٌ مكتومٌ تحت الرّماد.

في غضون سنتين تقريباً كان السلطان سليم هو السلطان الأوحد للدولة العثمانيّة، بعدما انتصر في معـ.ـاركه ضد أخويه.

لكنّ السلطان “الصـ.ـارم” لم يكن ليهدأ، فهذا الرجل الذي استطاع الإقدام على ما لم يكن غيره ليقدم عليه

استطاع زيادة رقعته دولته ضعفين عمّا كانت عليه.. وإليك التفاصيل.

أولى معـ.ـاركه الكبرى: القضاء على الخـ.ـطر الصفوي الشيعي

في الفترة التي كانت فيها المعـ.ـارك تدور على أشدّها بين الأخوين بايزيد الثاني وجمّ

كانت قوّةٌ أخرى مخيفة تنشأ في الظلال، وعلى حدود الدولة العثمانيّة إلى الشرق: الدولة الصفويّة الشيعيّة.

فقد بدأ إسماعيل شاه الصفوي تأسيس دولته التي ستستمرّ لاحقاً أكثر من قرنين، وستسبِّب للدولة العثمانية الكثير من المشكلات خلالهما.

كان إسماعيل الصفوي سليلاً لشيخٍ صوفيّ يدعى صفيّ الدين الأردبيلي الذي أسّس طريقته الصوفيّة السنيّة في منطقة أردبيل.

ظلّت هذه الطريقة تهتمّ بالتصوّف والعبادة على المذهب السنِّي، وظلّت قيادتها تتناقل بالتوارث، حتّى غيّر أحد مشايخها مذهبها الشافعيّ واعتنق المذهب الجعفريّ.

وبعد عدّة أجيال قرّر “الشيخ جنيد” أنّ تتحوّل الطريقة إلى العمل العسكري، فأصبح متصوفته الشيعة جنوداً وعساكر.

الدولة الصفوية

وفي عهد ابنه “الشيخ حيدر” توسّعت الطريقة حتّى مهّدت الطريق لابنه إسماعيل الصفوي

إعلان الدولة الصفويّة الشيعيّة في إيران ومذهبها الرسمي: الشيعي الاثنى عشري.

كان إسماعيل طموحاً للغاية، وربّما يمكننا أن نقول إنّه كان سفاحاً، استطاع ضمّ العراق وأجزاء كبيرة من آسيا

وأرغم الكثير من السكّان السنّة على اعتناق المذهب الشيعي بالقوّة.

بل إنّك ستفاجأ عندما تعرف أنّ إيران التي نعرفها الآن كانت سنيّة حتّى أدخل الشاه إسماعيل الصفويّ التشيُّع عليها

من خلال طريقته الدينيّة الشيعية ولاحقاً من خلال قوّته العسكريّة.

تذكر لنا المصادر التركية العديد من المـ.ـذابـ.ـح التي ارتكبها الشاه في المناطق السنيّة، ومع تحالفه مع القبائل التركيّة العلويّة في آسيا (قبائل القزلباش).

استطاع قضم جزءٍ مهم من الدولة العثمانيّة في وسط آسيا والأناضول، كانت بداية هذا في عام 1501م

حكم سليم

عندما كان الشاب سليم الصغير نسبياً والياً على مدينة طرابزون التركيّة على قربٍ من تحرُّكات الشاه الصفويّ الطّموح.

كان السلطان العثمانيّ بايزيد الثاني في أواخر سني عمره، وربّما لم يكن يقدّر أبعاد وخطـ.ـورة الدولة الصفويّة الناشئة على أطراف دولته.

خصوصاً أنّ ابنه الأكبر على تواصل مع الشاه الصفوي، بل ونال دعمه ليصبح سلطاناً بعد أبيه.

ومن هناك كان سليم يتميّز غيظاً ويرى أنّ أبيه يضيع الدولة من بين أيديهم وأنّ أخويه كليهما ليسا على قدر المسؤوليّة مثله.

وما إن تولّى سليم مقاليد الحكم وسيطر على دولته بالانتصار على أخويه في المعـ.ـارك التي دارت بينهم، حتّى وجّه قبلته ناحية الشرق.

فالسلطان الأربعينيّ يرى أنّ الخـ.ـطر الرئيسيّ على دولته يتمحور حول الدولة الصفويّة، ليس فقط لأنّها الدولة الأخطـ.ـر عليه

وإنّما لأنّ هناك مشتركات بينها وبين بعض القبائل التركيّة الشيعيّة التي اجتذبتها لها.

وكذلك لفرضها للمذهب الشيعي الاثنى عشري قسراً على المسلمين السنّة، العمود الرئيسي للدولة العثمانية.

فتوى شرعية

كانت البداية أن استفتى السلطان سليم الأوّل مفتي الدولة حمزة أفندي، فأصدر المفتي فتواه وهي محفوظةٌ في متحف طوب كابي بإسطنبول.

يقول فيها: “إنّ طائفة القزلباش التي يرأسها إسماعيل بن أردبيل استخفّت بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلّم

وسنّته والدين الإسلامي وعلوم القرآن والقرآن المبين.

وحقّرت من شأن ما استخفّت به كالقرآن الكريم وكتب الشريعة وأحرقتها.. ولأنّ هذه الطائفة كافرة وملحدة ومن أهل الفـ.ـساد، إذن ينبغي قتـ.ـالها والقضاء عليها”.

وأمر سليم بعدها بإحصاء الموجود على حدود الأناضول من هذه الطائفة، فكانوا أربعين ألفاً من القزلباش الصفويّين

فاستفتى في قتـ.ـلهم وقتـ.ـل الكثيرين منهم وزجّ البعض الآخر في السجون.

وكان هذا القرار في نظر سليم أنّه رداً على ما فعله الشاه إسماعيل في أتباع السلطنة العثمانيّة السنّة

تواصل المراسلات

ومن هنا بدأت المراسلات الحادّة بين الشاه الطموح والسلطان الشاب.

أرسل سليم في بداية الأمر إلى إسماعيل يخبره بأنّه حاد عن الطريق الصحيح، وأنّه يجب أن يعود لطريق الإسلام الصحيح

وأنّه قد استصدر فتوى بقتـ.ـله إذا لم يعد إلى رشده ويتخلّى عن مذهبه ووفقاً للمصادر التركية فقد استهزأ الشاه الصفوي برسالة السلطان

وأرسل له علبةً فيها أفيون وهذا معناه أنّ السلطان تحت تأثير الأفيون وليس في كامل قواه العقلية، وقتـ.ـل رسول السلطان سليم.

وفي إحدى الرسائل تواعد الاثنان على القتـ.ـال في معـ.ـركةٍ حاسمة وأرسل السلطان سليم رسالةً يقول فيها: “إن كنت رجلاً فقابلني في الميدان”.

وكانت هذه المعركة التي غيّرت تاريخ هذه المنطقة مرةً أخرى: معـ.ـركة جالديران عام 1514، بعد تولّي سليم السلطنة بسنتين فقط.

معـ.ـركة جالديران الحاسمة

وفقاً لما يذكره لنا كتاب “تاريخ الدولة العثمانية منذ نشأتها حتّى نهاية العصر الذهبي”

فقد بدأ سليم مسيرته الطويلة الشاقّة من إسطنبول إلى عقر دار الدولة الصفويّة.

وفي طريقه إلى جالديران استطاع مدّ سيطـ.ـرته على ما قابله من مدنٍ وولايات صفويّة

لكنّ شاه الفرس استخدم آلية “الأرض المحـ.ـروقة” وهي أن يدمّر الأراضي التي ينسـ.ـحب منها قبل أن يدخلها العثمانيّون.

وصل الجيش العثماني في أغسطس/آب 1514 إلى سهل جالديران بعد مسيرة 2500 كم

وفي اليوم التالي بدأت المعـ.ـركة الحاسمة، معـ.ـركة الشاه الطموح جداً.

والسلطان الشّاب الذي لم يسترح يوماً على كرسيّ عرشه لكثرة معـ.ـاركه وحـ.ـروبه.

دارت المعـ.ـركة، وكان النصر فيها حليفاً للسلطان سليم الأوّل، ليس هذا فقط، بل إنّ الشاه نفسه قد جُـ.ـرح

وهـ.ـرب من ساحة المعـ.ـركة بصعـ.ـوبة، وأسـ.ـرت إحدى زوجاته، وقُتِـ.ـل العديد من قادته.

وبهزيمة الشاه تقهقر إلى مدينة تبريز التي كانت عاصمته، لكنّ سليماً قرّر أن يدخل تبريز

وبالفعل استطاع دخولها والسيطرة عليها بعدما هـ.ـرب الشاه منها هـ.ـروباً سريعاً.

بهذا الانتصار الضخم استطاع سليم أن يثبت قوّته، ويوطّد حكمه، ويرجع ما أُخذ من دولته في عهد أبيه ويضم أراضي جديدة أيضاً.

ومع الغنائم الضخمة التي غنمها جنده والأراضي التي وقعت تحت سيطرته زادت شعبيته لدى الجنود الإنكشاريّة أكثر، وأصبح متفرغاً أكثر ليناوش.

أو لنقل ليدخل في مغامرةٍ جسورةٍ أخرى: حـ.ـرب المماليك والعثمانيين القادمة التي ستغيّر فعلياً تاريخ المنطقة طيلة خمسة قرون.

حـ.ـرب المماليك والعثمانيين.. بين السلطان الشاب والسلطان المُحنّك

كانت الدولة المملوكيّة التي نشأت في مصر على أنقاض الدولة الأيوبيّة وتوسّعت حتّى ضمّت إلى مصر النوبة

وشمال السودان وأراضي الحجاز واليمن وكامل الشام وبعض الإمارات التركمانيّة التي تقع على الحدود مع الدولة العثمانيّة.

كانت أراضيها ضعـ.ـف ونصف أراضي الدولة العثمانيّة، وكذلك كانت الدولة تشيخ، فقد مرّ عليها أكثر من قرنين ونصف من الزمان.

استطاعت خلالهما مدّ نفوذها على كلّ هذه الرقعة الضخمة، بعدما طردت الصليبيين نهائياً وإلى الأبد من ديار المسلمين

وبعدما قضت على الخطر المغوليّ في معـ.ـركة عين جالوت الشهيرة.

تأسست دولة المماليك في الوقت الذي كان فيه آباء العثمانيين مجرّد قبيلة صغيرة

تسعى من خلال قائدها الشهير أرطغرل بن سليمان لتأسيس إمارةٍ صغيرةٍ على حدود الدولة البيزنطيّة.

لكنّ الدولة العثمانيّة التي تأسست حقيقةً مع عثمان بن أرطغرل عام 1299 – بعد تأسيس المماليك دولتهم عام 1250 

كانت قد بدأت تشبُّ عن الطوق بعد صراعاتٍ عديدة خاضتها في الأناضول وأوروبا حتّى تثبِّت أقدامها على أراضيها.

ومع الدولة التي بدأت تشيخ في العاصمة القاهرة، كانت الدولة الأخرى التي بدت شابةً تتوسّع على حسابها.

وقد بدأ هذا التوسُّع -وفق كتاب “العثمانيون في التاريخ والحضارة” لمؤلفه المؤرخ المصري محمد حـ.ـرب

أثناء عودة سليم الأوّل من حـ.ـربه مع الدولة الصفويّة.

مراسلات وتوسع 

كانت المراسلات قد بدأت منذ فترة بين السلطان قانصوه الغوري والسلطان سليم الأول، عندما طلب منه سليم أن ينضمّ له

باعتبارهما على المذهب السنيّ- ليحـ.ـاربا الشاه الصفويّ الشيعيّ.

وعلى الجانب الآخر فقط أرسل الشاه إلى السلطان قانصوه الغوري يدعوه لمساعدته لحـ.ـرب “ابن عثمان”

لكنّ السلطان المملوكيّ المخضرم -وكان في الستينات من عمره- آثر أن يقف على الحياد بينهما، فما الضـ.ـرر عليه إن انتظر النتيجة حتّى يميل لأحدهما؟

علينا أن نتذكّر هنا ما ذكرناه سابقاً من أنّ ثلاثة أولاد لأخي سليم الأكبر، الأمير أحمد، قد هـ.ـربوا إلى مصر في عهد قانصوه الغوري

وإن رفض الغوري أن يستقبل أحمد كي لا يثير حنق سليم كثيراً، فيكفي لجوء أولاده الثلاثة للقاهرة.

على أنّ ما يبدو أنّ السلطان قانصوه كان ليفرح أكثر لو انتهت المعـ.ـركة بهـ.ـزيمة سليم

أو على الأقل بخسائر بين الدولتين الصغيرتين نسبياً مقارنةً بمملكته العجوز الواسعة.

فلو أنّ سليماً وإسماعيل تقـ.ـاتلا وخـ.ـسر كليهما خسـ.ـائر فادحة فمن سيكون منتصراً أكثر من السلطان العجوز المخضرم؟

عندما انتصر سليم الأوّل في معـ.ـركة جالديران أرسل إلى السلطان قانصوه الغوري يبشّره بالنصر على الشاه إسماعيل.

وقد ردّ الغوريّ على رسالته بفرحٍ عارم وإن أخفى ضيقاً من انتصاره الذي جعل قوّته تضاهي الآن قوّة الغوري

وهكذا كانت الحـ.ـرب بين الغوري وسليم حـ.ـرباً دبلوماسيةً مكتومة، قبل أن تنفـ.ـجر.

غير أنّ السجلّات تذكر لنا أنّ خاير بك، والي الغوري على حلب، كانت بينه وبين سليم الأوّل مراسلاتٌ عديدة

قبل حتّى انطلاق سليم إلى معـ.ـركته الحاسمة مع الصفويين.

فقد كان خاير بك هو المكلّف من قبل الغوري وواليه على الشام أن يتواصل مع سليم، باعتباره على الحدود مع الدولة العثمانيّة.

لكنّ خاير بك الذي عرف لاحقاً عند المؤرخين المصريين بالخـ.ـائن، وقد ثبتت خيانته بالفعل وسنذكر ذلك لاحقاً، كانت له صلاتٌ أقوى مع السلطان سليم.

استمرار المراسلات

وقد أرسل خاير بك رسالة طويلة قبيل المعـ.ـركة الحاسمة إلى سليم بك يخبره فيها بالتالي:

“والمملوك واقفٌ على أثبت قدمٍ لما يردُ عليه من المراسم والخَدَم ليفوز بقضائها وامتثالها بالسمع والطاعة”.

ويؤكّد لسليم في نفس الرسالة أنّ “المملكتين مملكةٌ واحدة”، والرسالة محفوظة في متحف طوب كابي في إسطنبول.

من خلال مراسلات خاير بك مع السلطان سليم الأوّل، يبدو لنا أنّ السلطان سليم قد بدأ بـ “فتح خطّ” مع أحد أهمّ الشخصيات في السلطنة المملوكية المترامية.

نعود إلى بدايات الصـ.ـدام وحـ.ـرب المماليك والعثمانيين، كانت هناك إمارة تركمانيّة اسمها “ذو القادر” بين الدولة العثمانية والدولة المملوكيّة.

وكانت هذه الإمارة الصغيرة تدين بولائها للسلطان المملوكيّ، وعندما أراد سليم غزو الفرس طلب من علاء الدين ذو القادر

أمير هذه الإمارة، أن يساعده بالإمدادات، وهو ما رفضه علاء الدين.

وأثناء عودة سليم الأوّل قتـ.ـل علاء الدين وأخذ إمارته الصغيرة، وبهذا بدأ التحرّش والاحتكاك رسمياً بين الدولتين.

سار السلطان المحنّك قانصوه الغوري على رأس جيشه إلى حلب، احتراساً ممّا كان يدبِّر سليم الأوّل

فقد كانت الحـ.ـرب المخابراتيّة بين السلطانين على أشدّها.

ورغم أنّ السلطان سليم تبادل عدّة رسائل مع السلطان قانصوه الغوري، واصفاً إياه “والدي” لفارق السنّ بينهما

إلا أنّ هذا يؤكد الصـ.ـراع بينهما ولا ينفيه، فقد كانت التحرّكات على الأرض تنبأ بالعاصفة القادمة.

وصل لأيادي المخابرات العثمانية رسالةً تؤكد الودّ بين الشاه الصفوي والسلطان الغوري

نشوب معكرة مرج دابق

بينما وصلت آخر أخبار سليم إلى المخابرات المملوكية التي أكّدت للسلطان حشود سليم الأوّل العسكرية، وعلى هذا الأساس تحرّك الرجلان.

وقعت معـ.ـركة مرج دابق على مشارف حلب في 8 أغسطس/آب عام 1516، بين الجيشين الكبيرين: المملوكيّ بقيادة السلطان قانصوه الغوري.

والعثماني بقيادة السلطان سليم الأوّل، ودارت الدائرة على السلطان المحنّك لصالح السلطان الشاب الطموح الذي لا يهدأ

لكنّ ثنايا المعـ.ـركة تكشفُ لنا الكثير فقد أشاع خاير بك وقد كان قائد الجناح الأيسر للجيش، الذي ذكرنا منذ قليل مراسلاته مع السلطان سليم، إشاعتين:

الأولى: أنّ السلطان الغوري أمر مماليكه الخاصين ألّا يدخلوا المعـ.ـركة كي يضحّي بالمماليك القديمة، فانسحب المماليك الكبار من المعـ.ـركة.

والثانية: أنّ السلطان قانصوه الغوري قد قُتـ.ـل، فخارت هـ.ـزيمة الجُند!

وقد قتـ.ـل السلطان الغوري بالفعل لكن بعد الإشاعة، ولا تذكر لنا كتب التاريخ كيف قـ.ـتل أو مات الغوري

لكنّ المؤرّخ المصري محمد حـ.ـرب يذكر لنا أنّ العثمانيين أكرموه بعد وفاته، فأقاموا عليه صلاة الجنازة ودفنوه في مشارف حلب.

خادم الحرمين لا مالكهما

كما يؤكد لنا د. أحمد فؤاد متولي المؤرخ المصري أيضاً حادثةً تذكرها المصادر التركيّة بأنّ السلطان سليماً

لمّا دخل حلب ودعي له في صلاة الجمعة ذكر الخطيب أنّه “مالك الحرمين الشريفين”.

فنهض سليم من مكانه قائلاً أثناء الخطبة: “من أنا لأكون مالك للحرمين؟ إنني أفتخر بأن أكون خادم الحرمين لا مالكهما”

وإن كانت المصادر التركية تمتلئ ببعض المبالغة من أنّ السلطان قام وبكى قبل أن يقول كلمته تلك.

لم تنتهِ الحـ.ـرب بين المماليك والعثمانيين بسقوط قانصوه الغوري، فقد كان هناك سلطانٌ شاب، عيّنه المماليك بعد وفاة عمّه قانصوه الغوري.

كان طموحاً كسليم، يصغره بأربع سنواتٍ فقط، وسيصبح أسطورةً سيُعجب بها سليم نفسه، ذلك هو السلطان طومان باي.

طومان باي.. آخر سلاطين المماليك وقائد آخر معـ.ـركة ضد العثمانيين

لا يبدو أنّ السلطان سليم الأوّل كان راغباً في اكتمال غزوه بالوصول للقاهرة، بما في ذلك من مشقةٍ وخسـ.ـائر وتكلفةٍ ماليّةٍ كبيرة.

فماذا يريد أكثر من قتـ.ـل السلطان المحنّك وإنهاء دولته، سوى خضوع بقيّة بلاده لسلطانه وتأدية الجزية السنوية وبقيّة الواجبات التي يؤدونها للسلطان؟

من هذا المنطلق أرسل رسالةً لطومان باي يطلب منه فيها التسليم بسلطانه عليه، وأن يحكم مصر باسم السلطان سليم الأوّل، مقابل جزيةٍ سنويّة.

كان طومان باي ابن أخي السلطان قانصوه الغوري، وقد نصّبه المماليك سلطاناً على المملكة

فقـ.ـتل رسل السلطان سليم الأوّل، وكانت الرسالة واضحة: اقطع الطريق من حلب إلى القاهرة، فلم تنتهِ السلطنة المملوكية بعد!

وهكذا، سار جيش سليم رغم المشقّة والتكاليف إلى مصر، ووقعت معـ.ـركة الريدانيّة الشهيرة

التي انتصر فيها سليم الأوّل بسبب خيـ.ـانة جان بردي الغزالي والي غزّة أيضاً

والذي يبدو أنّ خاير بك قد منّاه وأوقعه في شباك الخيـ.ـانة، وقعت معـ.ـركة الريدانيّة في مصر وانهـ.ـزم المماليك.

لكن يبدو أنّ طومان باي كان من عجينةٍ غير التي كان منها عمّه قانصوه نفسه، أو أمراؤه الخـ.ـونة

قرار شجاع

فيذكر لنا ابن إياس -المؤرخ المصري- في كتابه المهمّ “بدائع الزهور في وقائع الدهور” أنّ السلطان طومان باي عندما رأى تخاذل أمرائه.

وأنّ الدائرة تدور عليه بسبب المـ.ـدافع العثمانيّة المتقدّمة عن مدافـ.ـعه، وبسبب خيـ.ـانة جان بردي الغزالي

قرّر قراراً شجاعاً: أن يقود بنفسه مجموعةً انتحـ.ـاريةً لقـ.ـتل السلطان سليم وإنهاء هذا الصـ.ـراع الملحميّ.

استطاع طومان باي أن يختـ.ـرق المعسكر العثمانيّ بالفعل، لكنّه قتـ.ـل الصدر الأعظم سنان باشا

ظاناً منه أنّه هو السلطان، لكنّه استفاق في اليوم التالي دون هـ.ـزيمة العثمانيين أو تراجعهم.

وهـ.ـرب طومان باي بعد هـ.ـزيمة الريدانيّة، وبدأ طورٌ آخر من أطوار الصـ.ـراع: حـ.ـرب الشوارع.

جمع طومان باي ما تبقّى من المماليك، واستقبل المتطوعين من الأهالي

معركة حاسمة

وبدأ حـ.ـرب شوارع مع القوات العثمانية في شوارع القاهرة التي يعرفها جيداً.

استمرّت المعـ.ـركة أربعة أيّامٍ كاملة، ويبدو من كلام المؤرخين المصريين في تلك الفترة أنّ العثمانيين خسروا كثيراً

وربما خامر البعض الأمل في الفوز عليهم وانسحابهم.

لكنّ العثمانيين صعدوا على الأسطح والمآذن وأمطروا المماليك ببنادقهم، وكانت هذه الخطوة هي التي قضت على مقاومة طومان باي الأخيرة.

هـ.ـرب طومان باي من القاهرة، وناوش العثمانيين مرةً أخرى فهُزم، وحين لجأ لأحد المشايخ البدو، استدلّ عليه السلطان العثمانيّ.

وتروي لنا المصادر بعضاً من تفاصيل هذا اللقاء الدراميّ: عاتب السلطان سليم الأوّل السلطان طومان باي

على قتله للرسل العثمانيين، فأخبره طومان باي بأنّه لم يأمر بذلك، وإنما فعل ذلك قادة المماليك.

يقال إنّ السلطان سليم فكّر في العفو عنه، لكنّ الصدر الأعظم وبعض القادة مثل خاير بك الخـ.ـائن أبلغوه بأنّه لن يستقرّ له حكم مصر إن عفى عن طومان باي.

طومان بطل أسطوري

فقد استطاع طومان باي أن يصبح بطلاً أسطورياً خلال مقاومته للعثمانيين، وهذا خطـ.ـرٌ على سليم نفسه.

ربّما أعجب سليم بطومان باي، وربما رأى فيه نفسه، فالفارق بينهما أربعة سنوات فقط

وكلاهما لديه خـ.ـلاف فيما يبدو مع نهج سابقيهما.

هذا خلافٌ مع أبيه وهذا خلافٌ مع عمّه، وربّما فكّر سليم الأوّل لو أنّ السلطنة المملوكية كانت تحت حكم طومان وليس قانصوه الغوري

هل كان يستطيع هـ.ـزيمته؟ وفي النهاية فازت حاشية سليم بقراره: قتـ.ـل طومان باي وتعليق جثمانه على باب زويلة.

في هذا السياق من المهم أن نذكر أنّ خاير بك الخـ.ـائن نال من السلطان سليم حكم مصر، واستمرّ حكمه أربع سنوات

اعتبرها جمهور المؤرخين المصريين من أسوأ سنين الحكم، ولم ينسوا أنّه لولا خيانة هذا الرجل ربما ما وقعت السلطنة العجوز التي قاربت الثلاثة قرون.

استقرار الدولة وتمهيد السلطان سليم الأول لغـ.ـزو أوروبا

بهـ.ـزيمة الدولة الصفويّة في معـ.ـركة سهل جالديران، استطاع سليم أن يضمّ ما يساوي نصف مملكة والده

وبانتصاره في معركتي مرج دابق والريدانية فقد ضمّ ضعف ونصف مساحة دولته.

فقد كانت السلطنة المملوكية أكبر من الدولة العثمانيّة، وبهذا ففي عام 1517 كانت الدولة العثمانية قد ازدادت ضعفين على أملاكها.

أثناء عودته إلى إسطنبول، التي تركها تحت حكم ابنه الوحيد سليمان، جاءته فكرةٌ عجيبة: أن يحوِّل اللغة الرسمية للدولة كاملةً إلى اللغة العربية.

وأن يجعل كامل رعاياه مسلمين، غصباً أو عبر الدعوة والتعليم!

وربّما هذا الموقف يخبرنا أنّ سليم لم يكن مفكراً لكنّه كان عسكرياً من طرازٍ خاص، وشاعر يكتب بالعربية والتركية والفارسية في آن!

رفض المفتي فكرة سليم الأوّل، وأخبره أنّ حرية العقيدة أمرٌ منتهٍ، كما عارض أيضاً تحويل لغة الدولة للعربية

توفي سليم بعد حـ.ـربه مع المماليك بثلاث سنواتٍ فقط

سمّاه الفرنسيون “الرهيب”، والعثمانيون “الصـ.ـارم” أو “القـ.ـاطع”، والبريطانيون “العابس”

وكلّ هذه الأوصاف تعطينا مؤشراً عن كيف رآه أعداؤه ومناصروه على السواء، فقد كان شخصاً مختلفاً، حكم فقط 8 سنوات، وخلالهما ضاعف رقعة دولته ضعفين.

هـ.ـزم مملكةً ناشئة في الشرق وقضى على مملكة استمرت قرابة ثلاثة قرون في الجنوب.

ومن خلال هذه التوسعات وتأمين حدوده الجنوبية والشرقية في آن

فتح لابنه آفاقاً أرحب للغـ.ـزو وتوسيع رقعة دولته، ولكن هذه المرة في الجهة المقابلة: في أوروبا.

وسيصل ابنه سليمان القانوني حتّى أسوار مدينة فيينا النمساوية، التي سيفـ.ـشل في فتحها

لتصبح الدولة في عهده إمبراطوريةً كبرى، تخشاها بلاد المشرق المسلمة وترهبها بلاد أوروبا كاملةً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى